المجتمع الأول لناطقي اللغة العربية في الولايات المتحدة

مشهد الحي السوري من شارع باتيري، عام 1904
مشهد الحي السوري من شارع باتيري، عام 1904

الوصول

في عام 1880، وصل المهاجرون الذين سيسمون أنفسهم قريبًا "السّوريون" إلى الطرف الجنوبي من جزيرة مانهاتن بعد قطع مسافة 5,000 ميل من المرافئ الشرق الأوسطية. وصلوا إلى "باتيري"، وكان بإمكانهم رؤية طرف شارع واشنطن، وهو شارع بين الشمال والجنوب، بُني على مطمر في نهر الهدسون، ليصبح هذا الشارع لاحقًا "حي السّوريين".

جاء معظم المهاجرين من "سوريا الكبرى"، وهي جزء من الإمبراطورية العثمانية التي تضم حاليًا لبنان (حيث جاء أكبر نسبة من "السّوريين" منها)، وسوريا وفلسطين التاريخية.

بدايةً، ضم هذا الشارع عشرات المهاجرين، إلى أن زادوا إلى الآلاف، وفي حلول عام 1900، أصبح شارع واشنطن مجتمعًا حيويًا يحتوي على 1500 سوريّ. وكان معظم السّكان تقريبًا مسيحيين: موارنة وأرثوذوكس والملكيين وبروتستانت، لكن استقر المسلمون والدروز أيضًا. وغلب على الشارع الطابع العربيّ، فيمكنك سماع اللغة العربية في كل أرجاء المكان، ورؤية رجال يعتمرون الطرابيش يتجولون في الشارع، وتجار الجملة السّوريين والمستوردين والمصنعين الذين يوفرون البضائع للمهاجرين الجدد كي يبيعونها. ونشرت عشرات الصّحف العربية أخبارًا عن بلادهم ونصائحًا للمهاجرين الجدد كي يتكيفوا مع حياتهم الجديدة، وتم رعاية الشعراء والمؤلفين في المجتمعات الأدبية.

سُمي شارع واشنطن بـ "المستوطنة السّورية" أو" الحي السّوري" أو "سوريا الصّغيرة"، ومثّل الشارع المجتمع الفكريّ والأدبيّ والتجاريّ والديني للمجتمعات الناطقة بالعربية في الولايات المتحدة الأميركية. وتنافست معظم هذه المجتمعات مع مدينة نيويورك من حيث الحجم والتعقيد، لكن بقي المجتمع السّوري  في مدينة نيويورك مركز الجذب الأساسي.

يُمكن أن يكون بيتر زكريا أول مهاجر "سوريّ" إلى الولايات المتحدة، وبالطبع هو سوريّ الجنسية، وُلد في دمشق عام 1814، وذهب إلى كاليفورنيا في فترة حمى الذهب عام 1852 واستقر في ساكرامنتو، حيث تزوج وعاش إلى حين وفاته في سبتمبر 1878. وقبل شهر من وفاته، وصلت أول عائلة سورية إلى نيويورك، لكنهم لم يستقروا في نيويورك، بل ذهبوا إلى تينيسي. وخلال السّنوات القادمة، وصلت المئات من العائلات إلى نيويورك وأسست أول مجتمع ناطق باللغة العربية في الولايات المتحدة. ومعظم الذين التحقوا بهم كانوا من لبنان الحالي، لكن جاء الكثير من دمشق ومناطق أخرى من سوريا الحالية، بالإضافة إلى مصر وفلسطين. 


بيتر زكريا، 1868، بإذن من مكتبة سكرامنتو العامة.
بيتر زكريا، 1868، بإذن من مكتبة سكرامنتو العامة.


كانت الرّحلة من بيروت إلى نيويورك قاسية، بسبب السّفر في البحر لمدة ثلاثة أسابيع في ظل ظروف مناخية صعبة، والطعام الذي لا يؤكل، وتفشي الأمراض. لذلك وصل السّوريون منهكين ومتسخين وخائفين، وفي بعض الأحيان مصابين بالأمراض. فسمع أغلبهم قصصًا عن مواطنين عادوا بعد مرورهم بجزيرة إليس. فيمكن رفض مرورهم بسبب عدم حوزتهم على مال أو وظيفة محتملة أو عدم امتلاكهم لصديق أو أقرباء في الولايات المتحدة الأميركية. وإذا كانوا يعانون من "مرض كريه" مثل التراخوما، يُرفض مرورهم أيضًا. وإذا كانوا عمال متعاقدين لصاحب عمل، يُرفضون ويتم اعتقال أصحاب العمل المشتبه بهم. اعتبر الكثير من الناس أنّ السوريين "غير مرغوب بهم"، لذلك طُبقت هذه القيود بشكل تعسفيّ. 


قصد رجال الأعمال السّوريين الميناء وأودعوا مالًا لضمان عدم معاملة المهاجرين "كعبء على الدولة". وعلى الرغم من هذه العقبات، سُمح للأغلبية بالمرور، ووصلوا إلى باتيري، التي تبعد مسافة خطوات عن شارع واشنطن، حيث استقر المواطنون. لا شك أنهم صُدموا بالمشهد في شارع واشنطن، فقد سمعوا مجموعة من اللغات الأيرلندية والإيطالية والألمانية والاسكندنافية من الصّالونات والإسطبلات والمنازل الداخلية والمسابك. وعمل معظم جيرانهم على أرصفة نهر الهدسون أشغالًا قاسية والتي تبعد مسافة شارع نحو الغرب. أمّا معمل بابيت للصّابون الضخم فقد استحوذ على مساحة شارع من القسم الغربي للحي. لكن من ناحية الشرق، تذكروا معالم وطنهم بسبب تحدث الناس هناك للغة العربية، ووجود الإشارات والقوائم العربية على واجهة المحلات، وانتشار بيع الصّحف والكتب العربية في المستوطنة. وباعت المحلات السّورية بضائع شرق أوسطية، أو عرضت بقالة وفواكه ودخان لمواطنيها. حتّى أنه وُجد كهنة يتحدثون العربية ووانتشرت المصليات لكل طائفة دينية. كان شارع واشنطن "سوريا الصّغيرة" في مدينة نيويورك. 





بعنا كل ممتلكاتنا، وبقي معنا تقريبًا 60$ بعد أن دفعنا ثمن رحلتنا على الباخرة. كلفتنا الرحلة 170$ واستغرقنا ثلاثة أسابيع حتّى وصلنا، فتوقفنا في مصر وإيطاليا وبعض المدن الفرنسية والإسبانية قبل أن ننطلق في رحلتنا عبر المحيط الأطلسي. لم أرى في حياتي أي مدينة سوى بيروت، رأيت بعض المناظر الخلابة أثناء رحلتي عبر البحر الأبيض المتوسط. ولكن أصبح ذلك في الماضي بعد وصولي إلى خليج نيويورك، ووجدت نفسي محاطة بمدن أكبر من أي مدينة رأيتها في أوروبا. مررنا بالقرب من تمثال الحرية، ورأينا الجسر الأبيض الجميل المعلّق في السّماء والأبنية الكبيرة المرتفعة كارتفاع جبالنا. وكنت مستعدًا لرؤية الثلج على قممهم، لكن كنا في فصل الصّيف عند وصولي منذ تسع سنوات.

نجيب دياب، عام 1902
صورة لنجيب دياب، تقريبًا عام 1915، بإذن من بوب جودهاوس.
صورة لنجيب دياب، تقريبًا عام 1915، بإذن من بوب جودهاوس.
الدكتور أكرم خاطر يتحدث في جامعة فيلانوفا
لحظة وصول المهاجرين من الشرق الأوسط إلى جزيرة إليس، تقريبًا العام 1905.
لحظة وصول المهاجرين من الشرق الأوسط إلى جزيرة إليس، تقريبًا العام 1905.

وصل ثمانية وأربعون سوريًا من كلا الجنسين ومن جميع الأعمار إلى هنا أمس .... وليس مؤكدًا إذا كانت السّلطات ستسمح بمرور هؤلاء الناس، فمن المرجح أن فقرهم وطابعهم البدوي سيضعهم في خانة الفقراء.

نيويورك تايمز، 23 أغسطس 1889.
يصف جوزيف سفيلك، المقيم السابق والمرشد السياحي، تركيبة المجتمع. مقتطف من الفيلم الوثائقي "The Sacred" للكاتب أوزجي دوجان.
لويس هاين، امرأة سورية في جزيرة إليس، عام 1923، مجموعة الصّور في مكتبة نيويورك العامة.
لويس هاين، امرأة سورية في جزيرة إليس، عام 1923، مجموعة الصّور في مكتبة نيويورك العامة.
مشهد المقاطعة السّورية شمالًا من باتيري، عام 1903
مشهد المقاطعة السّورية شمالًا من باتيري، عام 1903